سورة هود - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}
{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الر} اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل. وسيبويه. وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي. والسدى، وقيل: إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه، وقيل: هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادي كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة، وقايل وقيل، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسمًا للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بالر وقيل: محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ، وقوله سبحانه: {كِتَابٌ} خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدأ محذوف على غيره من الوجوه، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر {أُحْكِمَتْ ءاياته} أي نظمت نظمًا محكمًا لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالأحكام مستعار من إحكام البناء عنى اتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالأحكام من أحكمه إذا منعه؛ ويقال: أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة، ومنه قول جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم *** إني أخاف عليكم إن أغضبا
وقيل: المراد منعت من الفساد أخذًا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد نزلة دابة منعها الدلائل من الجماح، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية. وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه، ولعل الذوف يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم.
واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلا أو بعضًا على حسب ما أشرنا إليه؛ وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع.
وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلًا، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه. وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ} [هود: 12] {وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود: 121] والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف و{مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} [هود: 51] الآية ونسخت بقوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] ولا يخلو عن نظر، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكمية أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيمًا، ومنه قول نمر بن تولب:
وأبغض بغيضك بغضًا رويدا *** إذا أنت حاولت أن تحكما
فقد قال الأصمعي: إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيمًا، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى {ثُمَّ فُصّلَتْ} أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللاالىء، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلًا فصلًا من السورو يراد بالكتاب القرآن، وقيل: يصح أن يراد به هذه السورة أيضًا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه. أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجمًا نجمًا على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، و{ثُمَّ} على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجمًا حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير، وقيل: للتراخي بين الأخبارين. واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازًا أو يقال بوجوده باعتبار ابتداء الخير الأول وانتهاء الثاني.
وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخى رتبة التفصيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الأحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني الأحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد بثم تبلغ اثنين وثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالًا ولا حجر. والزمخشري ذكر للأحكام على ما في الكشف ثلاثة أوجه. أخذه من أحكام البناء نظرًا إلى التركب البالغ حد الإعجاز. أو من الأحكام جعلها حكيمة. أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد، وللتفصيل أربعة. جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها، وجعلها فصولًا سورة سورة وآية آية. وتفريقها في التنزيل. وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد، وقال: إن معنى {ثُمَّ} ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل.
والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك، وفيه أيضًا أنه إذا أريد بالإحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الأحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى، وبالمعنى الثاني وإن كان معنويًا لكن التفصيل اكمال لما فيه من الإجمال، وان أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الأحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولًا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيًا أيضًا، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقًا حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلا فأخباري، والأحسن أن يراد بالأحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين {حكيم} و{خبير} و{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ} و{فُصّلَتْ} ثم قال: ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والأخباري انتهى فليتأمل، وقرئ {أُحْكِمَتْ} بالبناء للفاعل المتكلم و{فُصّلَتْ} بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل، وقيل: {فُصّلَتْ} هنا مثلها في قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} [يوسف: 94] أي انفصلت وصدرت {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بأحكام آياته وتفصيلها الداليت على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في الكشف. وفي الكشاف أن فيه طباقًا حسنًا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر، وأصل الكلام على ما قال الطيبي: أحكم آياته الحكيم وفصلت الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ} [النور: 36-37] على قراءة البناء للمفعول، وقوله:
لبيك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح
ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لا سيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي، و{لَّدُنْ} من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان، والراد هنا الأخير مجازًا، وينبت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالًا واحدًا وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الأخبار بها وعنها ولا يينى عليها المبتدأ بخلاف عند ولدي فانهما لا يلزمان استعمالًا واحدًا بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} [الأنعام: 59] {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] قيل: ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت. نعم جاء عن قيس اعرابها تشبيهًا بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم {بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] بالجر واشمام الدال الساكنة الضم واقترانها ن كما في الآية، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن من وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله:
وتذكر نعماه لدن أنت يافع ***
وفعلية كقوله:
صريح غوان راقهن ورقنه *** لدن شب حتى شاب سود الذوائب
ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله:
وليت فلم تقطع لدن ان وليتنا *** قرابة ذي قربى ولاحق مسلم
ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لا سيما في مثل لدن أنت يافع وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله:
لدن غدوة حتى دنت لغروب ***
وخرج على التمييز، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضماء كان، وفيها ثمان لغات. فمنهم من يقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يتلقى ساكنان. فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى لد بفتح اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام والدال وسكون النون. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول: {لَّدُنْ} بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضًا. فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول لد بضم اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول: {لَّدُنْ} بضم اللام وسكون الدال وكسر النون فهذه سبع لغات. وجاء لد بحذف نون {لَّدُنْ} التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية، ويدل على أن أصل لد لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فقتول: من لدنك ولا يجوز من لدك كما نبه عليه سيبويه، وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع.


{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)}
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل {ءانٍ} مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غيره عز وجل وتتمحضوا لعبادته سبحانه، فإن الأحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة.
وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنه قيل: فصل وقال: لا تعبدوا إلا الله أو أمر أن لا تعبدوا إلا الله، وقيل: إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به اتصالًا لفظيًا بل هو ابتداء كلام قصد به الاغراء على التوحيد على لسانه صلى الله عليه وسلم و{ءانٍ} وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل: الزموا ترك عبادة غيره تعالى، واحتمال أن يكون ما قبل أيضًا مفعولًا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر، ومثله احتمال كون {ءانٍ} والفعل في موقع المفعول المطلق، وقد صرح بعض المقحقين أن ذلك مما لا يحسن أو لا يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} ضمير الغائب المجرور لله تعالى و{مِنْ} لابتداء الغاية، والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكن من جهته تعالى نذير أنذركم عذابه أن لم تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عز وجل، وجوز كون {مِنْ} صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضًا، والمعنى حينئذ على ما قال أبو البقاء نذير من أجل عذابه وإما للكتاب على معنى إني لكن نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به، وقوله تعالى:


{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)}
{وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} عطف على {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} [هود: 2] سواء كان نهيًا أو نفيًا وفي {ءانٍ} الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن {ءانٍ} المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما، وفي توسيط جملة {إِنِّي لَكُمْ} [هود: 2] إلخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعة قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روعي في تقديم الانذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية لتتجاوب الأطراف، والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وأرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل، وقوله سبحانه: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} عطف على {استغفروا} واختلف في توجيه توسيط {ثُمَّ} بينهما مع أن الاستغفار عنى التوبة في العرف فقال الجبائي: إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها، فكلمة {ثُمَّ} على ظاهرها من التراخي في الزمان، وقال الفراء: إن {ثُمَّ} عنى الواو كما في قوله:
كهز الرديني تحت العجاج *** جرى في الأنابيب ثم اضطرب
والعطف تفسيري، وقيل: لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما عنى فثم للتراخي في الرتبة، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب صاحب الفرائد. وقال بعض المحققين: الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازًا من إطلاق السبب على المسبب، و{ثُمَّ} على ظاهرها وهي قرينة على ذلك.
وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع، ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من الله تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلًا، لكن اشترط شرعًا لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه، وجاء أيضًا استعمال الأول في الثاني، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر، وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة عنى الندم فكأنه قيل: استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ، والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها، والتراخي عليه يجوز أن يكون رتبيا وأن يكون زمانيًا كما لا يخفى {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} مجزوم بالطلب، ونصب {متاعا} على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى: {أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتًا} [نوح: 17] ويجوز أن يكون مفعولًا به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك، والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة، ولعل هذا لا ينافي كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولا كون أشد الناس بلاء الامثل فالأمثل لأن المراد بالأمن أمنه من غير الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وبالراحة طيب عيشه برجاء الله تعالى والتقريب إليه حتى يعد المحنة منحة.
وتعذيبكم عذب لدى وجوركم *** علي بما يقضي الهوى لكم عدل
وقال الزجاج: المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة {وَيُؤْتِ} أي يعط {كُلَّ ذِي فَضْلٍ} أي زيادة في العمل الصالح {فَضْلِهِ} أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطى، وقد يقال: لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمراد المبالغة على حد {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] والضمير لكل، ويجوز أن يعود إلى الرب، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الاعطاء ثواب وحينئذ يستغني عن التأويل.
واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال: وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العاملين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل ورا يكون المفضول أكثر تمتيعًا فقيل: ويعط كل فاضل جزاء فضله أما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مراد له انتهى.
ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه باحدى الدارين، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمّل، وقيل: في الآية لفونشر فإن التمتيع مربت على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى.
وايا مّا كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي تستمروا على الاعراض عما القى إليكم من التوحيد والاستغفار والتبوة، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوإ بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله، وقيل: إن {تَوَلَّوْاْ} ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهو خلاف الظاهر، وأخر الانذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو ون العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره.
وقرأ عيسى بن عمرو، واليماني {تَوَلَّوْاْ} بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع ولى من قولهم: ولى هاربًا أي أدبر {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} قتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضًا، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه، وقيل: المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف، وأيا مّا كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8